Thursday

خواطر مبعثرة


  كنت في الثانوي في الصف الحادي عشر جالس في الصف عم بتأمّل بأسئلة مذاكرة الفيزياء أنتظر حل من السماء. كانت الساعة١١ صباحآ. تطلعت ليميني أبحث عن مخرج من هالمأزق وشفت رفقاتي محتارين  أكتر منّي. الوحيد اللي كان مشغول بالكتابة كان أعز أصدقائي، خلّينا نسميه غياث. أنا و غياث كنّا شبين في السابعة عشرة، هو كان  الأوّلي في المدرسة  بكل شيء ماعدا اللغة الإنكليزية اللي كانت إختصاص العبد الفقير كاتب هذا المقال. كنا شباب ماعلى بالنا هم، كان همّي الوحيد االإستيقاظ الصبح باكرآ والركض للمدرسة لشوف بنات الثانوي وهن رايحين على مدارسهن. كانت هديك الأيام عصيبة على بلدنا والعالم ميتة من الخوف. النسخة الأولى من حزب البعث حاكمة و قصص حماة و سجن تدمر والإعتقالات شغالة في كل أنحاء البلد. كان الخوف يغلغل في عروق العالم وكلمة إخوان تعني حكم إعدام مؤكّد لأي مواطن مهما على شأنه و منصبه
  غياث كان شب ذكي جدآ وحتى االأساتذة كانوا يتعجبون من تفوقه الغير طبيعي. كنا نلعب رياضة سوا، ونتمشّى في الباحة أثناء الفرصة و نحكي عن السياسة و الأحداث الراهنة والمدرسة والمنهج و أي شيء يخطر على بالنا. كانت بشرة غياث بيضاء  وشعره أشقر وطوله أعلى من معدّل الشباب في المدرسة، ولكنه كان متواضع جدآ

أثناء حيرتنا و بحثنا لحل لورطة الفيزياء، سمعنا صوت طرق على باب الصف. راح الآستاذ ليفتح الباب  فنظرت لشوف مين عسى أن يكون جاي حل من السماء للمشاكل الفيزيائية اللي قدامي. ظهر من وراء الباب رجلين طوال بشوارب تخينة و لابسين ملابس عسكرية فوقها جاكيتين كاكي من اللي كان يلبسها أفراد الجيش و الأمن. سمعنا الرجلين عم يسألوا الأستاذ عن غياث. تطلعت ليميني لقيت صديقي رفع رأسه لأوّل مرّة عن ورقة المذاكرة. أشّر الإستاذ لغياث أن يخرج معهن. نظرت إليه مرة أخيرة وهو متجه نحو الباب، فرأيت الدم سحب من وجهه و سيماه الموت ظاهرة و كأنه يقاد إلى حبل المشنقة
مرت المذاكرة واليوم و الأسبوع والسنة ثمّ السنين و حتّى اليوم لا أدري ماحصل لصديقي. سمعت أنو بعض زملائنا من الشبيبة خبّروا عنه بعد أن دعي إلى إجتماع ترأسه أحد من المشبوهين في المدرسة، ولكن الله أعلم. بعد كم أسبوع ذهبت إلى بيته، ووقفت أمام الباب حوالي عشر دقائق بدون أن أجد الجرأة لدق الباب والسؤال عنه. خفت تطلعلي إمّه وتنهار عندما تراني
كان هاذا جو الرعب والخوف في تلك الأيام. ومتل قصة غياث في ألاف القصص. المشتبه فيه حتى لو كان بريء مفقود، والخارج جنّي مولود. وقتها صممت على ترك البلد رغم  إنو ماكانلي أي علاقات سياسية

بدأ القرن الواحد والعشرين، وتحولنا إلى نظام جديد يؤمن بالإنفتاح والإنترنت والأمور اللي لم نسمع بها بحياتنا إلا سرآ أو في الأخبار. بدأت الحياة في بلدي تنتعش على الرغم من إستمرار الفساد وسوء الأحوال الإقتصادية لعامة الشعب
 طبعآ من الصعب جدآ إنهاءعقود من القمع و الرشوة و السرقة في أيام أو أشهر معدودة.  الصحف ووسائل الإعلام الغربية سمت الرئيس الجديد
" الدكتور الهادئ Mild-mannered Doctor" 
 وتحدّثت عن محاولات الإصلاح و تنحية جنود النظام القديم و تعيين وجوه جديدة لقيادة البلد نحو المستقبل. محطة
" "Diane Sawyer" في أمريكا و مذيعتها المعروفة " "ABC"
عرضت برنامج على مدى ثلاثة أيام تحدثت فيه بإعجاب غير مصطنع بسوريا و رئيسها الشاب.
كنت فخور جدأ لأقول لرفاقي الأمريكان أن هذه البلد التي تتحدث عنها مذيعتهم هي بلدي و مسقط رأسي


المذيعة نفسها التي أعدت البرنامج المذكور أعلاه أجرت تحقيقا آخر من فترة قصيرة قالت فيه "عندما قابلت الرئيس الأسد في ٢٠٠٧ كان الوقت مبكرآ للقول إذا كان الرئيس و أفكاره الجديدة ستتغلّب على جند النظام القديم و أساليبهم التقليدية، ولكن اليوم أغلب الناس يعتقدون أن الحرس القديم قد إنتصرشاهدها هنا
كنت أراها عندما تقرأ الأخبار عن سورية و تعرض صور القتلى و الدمار يطغى على وجها الحزن و العجب "أهذه هي البلد التي أعجبت بها؟ لماذا يسمح هاذا الإنسان المتواضع الدمث بما يحصل لشعبه؟"  هاذا نفس السؤال الذي يسأله أغلبنا كل يوم ياسيدتي
هل هي ثورة كما يحب البعض أن يسميها؟ طبعآ لا. إذآ ماهي؟ إنّها ضجر و قرف و كبت يغلي في أعماقنا منذ أكثر من أربعين عامآ، شوق لممارسة أبسط الحقوق التي يمارسها غيرنا كل يوم. هل هناك بديل جاهز قادر؟ قطعآ لا. هل هناك معارضة مقتدرة محترمة؟ السخيفين لم يقدروا أن يعقدوا إجتماعآ واحدآ يتفقو فيه على كم موضوع، والجواب طبعآ لا.  هل من مبرّر لإطلاق النار على أطفال و متظاهرين عزّل؟ هل هناك سبب منطقي لحجز الآلاف و موت بعضهم تحت العذاب؟ بعد حرب تشرين إنقلب حماة ديارنا على الشعب و قتلوا الآلاف ولم تطلق رصاصة واحدة على جندي إسرائيلي
أخيرآ أسأل نفس السؤال الذي سأله نزار قباني منذ سنين عديدة

ليس جديدا خوفنا

فالخوف كان دائما صديقنا
من يوم كنا نطفة
فى داخل الأرحام
***
هل النظام فى الأساس قاتل؟
أم نحن مسؤولون
عن صناعة النظام ؟

إعذوروني، أفكاري مبعثرة و قلبي على بلدي و أهل بلدي. بتمنّا تكون قيادتنا ماعندها علم بالقتل اليومي و التخريب لأن جريمة القتل لا يصفح عنها بمضي الأيام و السنين
لكن و أنتم أعلم بعض الأمنيات لا تتحقق آبدآ
ودمتُم